فصل: تفسير الآيات (58- 61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (58- 61):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}
روي أن عمر بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج، وكان نائماً فدق عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلاّ بإذن. ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد نزلت فخرّ ساجداً. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل: دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالاً نكرهها.
{ليستأذنكم} أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب. وقيل: بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم {الذين ملكت أيمانكم} في العبيد والإماء وهو قول الجمهور. وقال ابن عمر وآخرون، العبيد دون الإماء. وقال السلمي: الإماء دون العبيد. {والذين لم يبلغوا الحلم منكم} عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحراراً. وقرأ الحسن وأبو عمر وفي رواية وطلحة {الحلْم} بسكون اللام وهي لغة تميم. وقيل {منكم} أي من الأحرار ذكوراً كانوا أو إناثاً. والظاهر من قوله {ثلاث مرات} ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: «الاستئذان ثلاث» والذي عليه الجمهور أن معنى {ثلاث مرات} ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيراً لقوله {ثلاث مرات} ولا يتعين ذلك بل تبقى {ثلاث مرات} على مدلولها.
{من قبل صلاة الفجر} لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم. {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت. و{من} في {من الظهيرة} قال أبو البقاء: لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة، قال: أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و{حين} معطوف على موضع {من قبل} {ومن بعد صلاة العشاء} لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم {ثلاث عورات لكم} سمى كل واحد منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان، والأعور المختل العين. وقرأ حمزة والكسائي {ثلاث} بالنصب قالوا: بدل من {ثلاث عورات} وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات {ثلاث عورات} وقال ابن عطية: إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات {عورات} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن {ثلاث عورات} وقرأ الأعمش {عَوَرات} بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع {ثلاث}.
قال الزمخشري: يكون {ليس عليكم} الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن {ثلاث عورات} مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
{بعدهن} أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر وقيل {ليس} على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول {عليكم} بغير استئذان {جناح} بعد هذه الأوقات الثلاث {طوافون} يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم {طوافون} أي المماليك والصغار {طوافون عليكم} أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلاّ في تلك الأوقات. وجوّزوا في {بعضكم على بعض} أن يكون مبتدأ وخبراً لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه. قال الزمخشري: وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعاً بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم. وقال ابن عطية {بعضكم} بدل من قوله {طوافون} ولا يصح لأنه إن أراد بدلاً من {طوافون} نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم {بعضكم على بعض} وهذا معنى لا يصح. وإن جعلته بدلاً من الضمير في {طوافون} فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف {بعضكم على بعض} وهو لا يصح. فإن جعلت التقدير أنتم يطوف {عليكم بعضكم على بعض} فيدفعه أن قوله {عليكم} بدل على أنهم هم المطوف عليهم، وأنتم طوافون، يدل على أنهم طائفون فتعارضا. وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير {عليهم}. وقال الحسن: إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة.
{وإذا بلغ الأطفال} أي من أولادكم وأقربائكم {فليستأذنوا} أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات. {كما استأذن الذين من قبلهم} يعني البالغين. وقيل: الكبار من أولاد الرجل وأقربائه. ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا فيما به البلوغ وهي مسألة تذكر في الفقه. كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ.
ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى {القواعد من النساء} اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال {والقواعد} وهو جمع قاعد من صفات الإناث. وقال ابن السكيت: امرأة قاعد قعدت عن الحيض. وقال ابن قتيبة: سُميِّن بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود. وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج. وقيل قعدن عن الحيض والحبل. و{ثيابهن} الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي وضعت خمارها.
{غير متبرجات بزينة} أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن، وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع، ورب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر بها جمال.
{وأن يستعففن} عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن. {والله سميع} لما يقول كل قائل {عليم} بالمقاصد. وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير.
عن ابن عباس لما نزل {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل: وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا إلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك. وقال مجاهد: كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت. وقيل: كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان جولان يد الأعمى، ولانبساط الجلسة مع الأعرج، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر. فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن {ليس على الأعمى حرج} وأجاب بعضهم: بأن {على} في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً. وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت. وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم. وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف. وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج. وهذا القول هو الظاهر. ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، وبيته بيته. وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه». ومعنى {من بيوتكم}. من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى.
وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة. {أو ما ملكتم مفاتحه}. قال ابن عباس: هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن. وقال قتادة: العبد لأن ماله لك. وقال مجاهد والضحاك: خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها. وقال ابن جرير: الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها. وقيل: ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر مّا قال تعالى {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} ومفاتحه بيده.
وقرأ الجمهور {ملكتم} بفتح الميم واللام خفيفة. وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة، والجمهور {مفاتحه} جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً. {أو صديقكم} قرئ بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة. قيل لبعضهم: من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي. وقال معمر: قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الحب؟ قال: أنت لي صديق فما هذا الاستئذان. وقال ابن عباس: الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى {أو صديقكم} أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال: هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك. وعن جعفر الصادق: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ. وقال هشام بن عبد الملك: نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه. وقال أهل العلم: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وانتصب {جميعاً أو أشتاتاً} على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. قال الضحاك وقتادة: نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده. وقال بعض الشعراء:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ** أكيلاً فإني لست آكله وحدي

وقال عكرمة في قوم من الأنصار: إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلاّ معه. وقيل في قوم: تحرجوا أن يأكلوا جميعاً مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل. وقيل {أو صديقكم} هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب. وقيل: هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام «ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه» وبقوله تعالى {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} الآية.
{فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم}.
قال ابن عباس والنخعي: المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله. وقيل: يقول السلام عليكم يعني الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال جابر وابن عباس وعطاء: البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة، فيقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال ابن عمر: بيوتاً خالية. وقال السدّي {على أنفسكم} على أهل دينكم. وقال قتادة: على أهاليكم في بيوت أنفسكم. وقيل: بيوت الكفار {فسلموا على أنفسكم} وقال الزمخشري {فإذا دخلتم بيوتاً} من هذه البيوت لتأكلوا، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة. و{تحية من عند الله} أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة وطيب الرزق انتهى. وقال مقاتل: مباركة بالأجر. وقيل: بورك فيها بالثواب. وقال الضحاك: في السلام عشر حسنات، ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون. وانتصب {تحية} بقوله {فسلموا} لأن معناه فحيوا كقولك: قعدت جلوساً.

.تفسير الآيات (62- 64):

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}
لما افتتح السورة بقوله {سورة أنزلناها} وذكر أنواعاً من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول عليه السلام اختتمها بما يجب له عليه السلام على أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض، ومن توقيره في دعائهم إياه. وقال الزمخشري: أراد عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه.
{إذا كانوا معه على أمر جامع} فجعل ترك ذهابهم {حتى تستأذنوه} ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره. وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتسديداً بحيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله {إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله} وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرّض بحال الماضين وتسللهم لو إذاً.
ومعنى قوله {لم يذهبوا حتى يستأذنوه} لم يذهبوا حتى يستأذنوه وبأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له، والأمر الجامع الذي يجمع له الناس، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك. والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله {وإذا كانوا معه على أمر جامع} أنه خطب جليل لابد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه. فمن ثم غلظ عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعينهم، وذلك قوله {لبعض شأنهم} وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه.
وقيل: نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل، ولا يتفرقون عنهم، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن على حسب ما اقتضاه رأيه انتهى. وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلاّ بإذن منه إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب. وقال مكحول والزهري: الجمعة من الأمر الجامع، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن به.
وقال ابن سيرين: كانوا يستأذنون الإمام على المنبر، فلما كثر ذلك قال زياد: من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إنّ سهيل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام. وقال ابن سلام: هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء. وقال ابن زيد: في الجهاد. وقال مجاهد: الاجتماع في طاعة الله. قيل: في قوله {فائذن لمن شئت منهم} أريد بذلك عمر بن الخطاب. وقرأ اليماني على أمر جميع.
{لا تجعلوا} خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة، أمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يدعى به نحو: يا رسول الله، يا نبي الله، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول: يا محمد وفي قوله {كدعاء بعضكم بعضاً} إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره. وكانوا يقولون: يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك. وقيل: نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها.
وقال الزمخشري: إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى. وهو قريب مما قبله. وقال أيضاً: ويحتمل {لا تجعلوا} دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده، وإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة انتهى. وقال ابن عباس: إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه. قال ابن عطية: ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى.
وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله {بينكم} ظرفاً قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح: وهو النبيّ عليه السلام على البدل من {الرسول} فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في التعريف. ثم قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى. وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلى الله عليه وسلم، فإاذ كان كذلك فقد تساويا في التعريف.
ومعنى {يتسللون} ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفية، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتاراً من الرسول.
وقال الحسن {لواذاً} فراراً من الجهاد. وقيل: في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة. وقال مجاهد لوذاً خلافاً. وقال أيضاً {يتسللون} من الصف في القتال وقيل: {يتسللون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه وعلى ذكره. وانتصب {لواذاً} على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين، و{لواذاً} مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً. وقرأ يزيد بن قطيب {لواذاً} بفتح اللام، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافاً. واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول: خالفت أمر زيد وبالي تقول: خالفت إلى كذا فقوله {عن أمره} ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعداه بعن. وقال ابن عطية: معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح و{عن} هي لما عدا الشيء. وقال أبو عبيدة والأخفش {عن} زائدة أي {أمره} والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور، وأن الضمير في {أمره} عائد على الله. وقيل على الرسول.
وقرئ يخلفّون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضاً أو بلاء قاله مجاهد، أو كفر قاله السدي ومقاتل، أو إسباغ النعم استدراجاً قاله الجراح، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد، أو طبع على القلوب قاله بعضهم. وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا. أو {عذاب أليم}. قيل: عذاب الآخرة. وقيل: هو القتل في الدنيا.
{ألا إن لله ما في السموات والأرض} هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه. {قد يعلم ما أنتم عليه} أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد، والظاهر أنه خطاب للمنافقين. وقال الزمخشري: ادخل {قد} ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله:
فإن يمس مهجور الفناء فربما ** أقام به بعد الوفود وفود

ونحو من ذلك قول زهير:
أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ** ولكنه قد يهلك المال نائله

انتهى. وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح، وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب.
ولا قد إنما هو من سياقه الكلام، وقد بين ذلك في علم النحو.
وقرأ الجمهور {يُرجعون} مبنياً للمفعول. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو مبنياً للفاعل. والتفت من ضمير الخطاب في {أنتم} إلى ضمير الغيبة في {يرجعون} ويجوز أن يكون {ما أنتم عليه} خطاباً عاماً ويكون {يرجعون} للمنافقين. والظاهر عطف {ويوم} على {ما أنتم عليه} فنصبه نصب المفعول. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف.
مفردات سورة الفرقان
الهباء قال أبو عبيدة والزجاج: مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس. وقال ابن عرفة: الهبوة والهباء التراب الدقيق. وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو هبواً، وأهبيتُه أنا إهباءً. وقيل: هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت. النثر: التفريق. العض: وقع الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر العين، وحكى الكسائي عضضت بفتح عين الكلمة. فلان كناية عن علم من يعقل. الجملة من الكلام هو المجتمع غير المفرق. الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن يسير من قولهم: ثغر مرتل أي مفلج الأسنان. السبات: الراحة، ومنه يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو مسلم. وقال الزمخشري: السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة. مرج: قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط واضطرب. وقيل: مرج وأمرج أجرى، ومرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد. العذب: الحلو. والفرات البالغ في الحلاوة. الملح: المالح. والأجاج البالغ في الملوحة. وقيل: المر. وقيل: الحار. الصهر، قال الخليل: لا يقال لأهل بيت المرأة إلاّ أصهار، ولأهل بيت الرجل إلاّ أختان، ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلهم. السراج: الشمس. الهون: الرفق واللين. الغرفة: العلية وكل بناء عال فهو غرفة. عباءً من العبء وهو الثقيل، يقال: عبأت الجيش بالتخفيف والتثقيل هيأته للقتال، ويقال: ما عبأت به أي ما اعتددت به كقولك: ما اكترثت به.